اكتشاف المادة الوراثية (نظرة تاريخية)

ان تنظر لسر الحياة.. ان تفك شفرة ما يجعل كل كائن حي على ما هو عليه.. لم يكن ذلك ممكناً على المستوى الدقيق حيث لا تستطيع اعيننا ” المجردة ” من رؤيته حتى طورت البشرية عبر مئات السنوات الميكروسكوب   وغيره من التقنيات، اختلفت الأقوال والآراء عن مكتشفي تلك الاختراعات التي غيرت ولا زالت تغير وجه العلوم، التي تتعطش لدراسة التفاصيل الدقيقة لخلايا الانسان كالأحياء الجزيئية والتركيبات الكيميائية لمكوناتها وغيرها من العلوم.

ميلاد علم الوراثة الكلاسيكية

ولكن قبل أن يشتد اهتمام العديد من الباحثين في مجال المادة الوراثية واكتشاف جينات الانسان وكيفية عملها على مستوى الخلايا الحية بشكل دقيق، بدأ العديد من الباحثين بدراسة كيفية توارث الصفات عبر الملاحظة والتجريب، أحد أشهر هؤلاء العلماء هو “جريجور مندل” وهو نمساوي نشأ وسط عائلة تتحدث الألمانية والذي يعتبر مؤسس علم الوراثة الكلاسيكية والذي أرسى مجموعة من القواعد الخاصة بالوراثة عبر ملاحظاته على نبات البازلاء الذي قام بزراعته في حديقة العائلة ويُقال حديقة الكنيسة التي اعتاد العمل بها.. قام رونالد فيشر، وغيره من الباحثين في علوم الوراثة والإحصاء بنقد دقة قوانين مندل فيما يعرف بمفارقة مندل.

على الرغم من أنه عندما يذكر علم الوراثة يُذكر “مندل” ولكن في ذلك الوقت لم يتم الاحتفاء بملاحظاته مباشرة ولكن بعد عشرات السنوات قام بعض الباحثين بإعادة اكتشاف قوانين مندل للوراثة منهم “هوجو ماري دي فريز” وهو باحث هولندي متخصص في دارسة علم النبات أجري ابحاثه وتجاربه على نبات “البريم روز” وقدم لأول مرة مصطلح الطفرة والتي اضافت لنظرية التطور وحازت على اهتمام كبير من قِبل المجتمع العلمي في ذاك الوقت.

ما المادة المسئولة عن انتقال الصفات الوراثية؟

يقال أنه ولفترة طويلة اعتقد الباحثين أن المادة المسئولة عن وراثة الصفات من الوالدين لذريتهم هي مادة البروتين ولذلك اهتم العديد منهم بدراسة تركيب البروتينات المختلفة في الخلايا منهم السويسري “فريدريك ميتشر” والذي اعتاد الحصول على الضمادات الجراحية من مركز طبي بجوار معمله حيث كان يدرس مكونات القيح الموجود على تلك الضمادات، والذي لاحظ أنه عند إضافته مادة حمضية على عينته تترسب مادة أطلق عليها اسم “النيوكلين” وعند إضافة مادة قلوية تذوب فأستنتج أن مكونات المادة الوراثية تختلف عن مكونات البروتينات.

علماء وباحثين قاموا بإسهامات في اكتشاف المادة الوراثية للإنسان

نفس الاستنتاج الذي أكده “والتر فليمنج” المتخصص في دراسة علم الأحياء، والذي قام باستخدام صبغات الأنيلين العضوية في فصل وتعريف الكروماتين شديد الامتصاص لذلك النوع من الصبغات القاعدية، حيث لاحظ أن المادة الوراثية تتجمع في بنية خيطية داخل نواة الخلية، كما قام بتوضيح تسلسل التغيرات المختلفة التي تحدث أثناء إنقسام الخلية عن طريق إضافة صبغات للخلايا أثناء مراحل مختلفة من انقسامها، كما اهتم بالبحث في توزيع المادة الوراثية بعد انقسام الخلية للخلايا الجديدة.

ولكن كيف لنا ان نعرف التركيب الكيميائي للحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين؟ ذلك ما ساهم في إيضاحه الحائز على جائزة نوبل فئة الطب أوالفيسيولوجيا والمتخصص في كيمياء الأنسجة والخلايا -الألماني – “ألبرت كوسيل”، عن اسهامه في فهم كيمياء الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين والذي اكتشف الأحماض النووية المكونة لل” د ن ا ”  و “ر ن ا ”  وهي الأدينين والسيتوزين والجوانين والثايمين واليوراسيل.

ونظراً لاهتمام العديد من الباحثين بنفس الموضوع، قام العديد(كثير) منهم بدراسات مختلفة والوصول لنتائج متشابهة كلاً على حدة، منهم، الألماني “ثيودور بوفاري” المتخصص في علوم التشريح المقارن وعلم الحيوان ومن مؤسسي علم الأنسجة الحديث، والذي قام بأبحاثه على خلايا النيماتود ،وأثبت هو و الأمريكي “والتر سوتون” – كلاً منهما بشكل مستقل –  أن الكروموسومات مسئولة عن حمل المادة الوراثية  ( وحدات الوراثة).

استنتاجات متشابهة

ولإضافة عنصر الإثارة.. تبدأ الروايات المتداولة على الانترنت في الاختلاف عند التحدث عن مُكتشف الكروموسومات المسؤولة عن تحديد الجنس ما بين الأمريكية “ناتي ماريا ستيفينز”  والأمريكي “توماس هانت مورجان” الحائز على جائزة نوبل فئة الفيسيولوجيا والطب والذي قام بأبحاثه على ذبابة الفاكهة ودراسة صفاتها الوراثية.

وعودة مرة أخرى للباحثين الذين قاموا بتجارب مختلفة استنتجوا من خلالها أن المسئول عن توارث صفات معينة هو الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين، البحث المعروف بأسمائهم تجربة ” آفري – ماكلويد – ماكرتي”

  والذي قاموا فيه بدراسة فصائل بكتيريا النيموكوكس، حيث لاحظوا وجود فصيلتين أحدهما الفصيلة (س) تُنتِج خلايا تحتوى على كبسولة ضارة من مادة البوليسكريد والتي تحفز الجهاز المناعي للجسم  لإنتاج خلايا مضادة و الفصيلة (ر)  الغير ضارة والتي تفتقر لتلك الكبسولة.

في تلك التجربة قاموا بتطوير طرق لفصل مركبات مختلفة من خلايا تلك البكتريا لدراسة سبب قدرة الفصيلة (س) على نقل صفة انتاج كبسولة ال(بوليسكريد) للفصيلة (ر)، عند إزالة البروتين ظلت قدرة خلايا البكتيريا على التحول لسلالة ضارة موجودة عكس النتيجة التي توصلوا إليها عند إزالة الحمض النووي منقوص الأكسجين ، من التجارب الشهيرة أيضاً التجربة المعروفة ب (تجربة هيرشي و تشيس)  والتي اعتمدت على البكتريوفاج  المشع واختلاف البنية الكيميائية لكل من البروتينات والحمض النووي منقوص الأكسجين للتوصل لنفس النتائج.

دور المرأة في علم الوراثة.. هل استحقت روزالند نوبل؟

“باربرا ماكلينتوك” والتي شقت طريقها لتصبح من النساء الحائزات على نوبل في الفسيولوجيا والطب، فقد قامت لأول مرة بوصف

ما يعرف ب (إعادة توزيع الجينات) أثناء الانقسام الميوزي لخلايا نبات الذرة، حيث تقوم الجينات بتبادل المعلومات على الكروموسومات وإعادة ترتيب نفسها مرة أخرى، كما صممت خريطة جينية لنبات الذرة وقامت بربط جينات محددة بصفات وراثية تظهر على النبات.

ولا ننفك نتنقل ما بين العلوم فيقوم باحث الكيمياء الحيوية الأمريكي ” إروين شارجاف” بوضع قاعدة توضح ان كميات الحمض النووي جوانزين تساوي تلك الموجودة من السيتوزين وأن كميات الأدينوزين تساوي تلك الموجودة من الثيميدين فيما يُعرف بقاعدة شارجاف والتي أوضحت الكثير عن تركيب المادة الوراثية وترتيب الأحماض النووية فيها.

تعود الإثارة والتفاعلات الاجتماعية وصراع الرجل مع المرأة مرة أخرى للساحة عند أحد اهم الإكتشافات على الإطلاق ، وقصة الصورة ” رقم 51 “التي قامت بالتقاطها وانتاجها الباحثة وخريجة كمبريدج “روزالند فرانكلين”، لم تنل روزالند نوبل على أي من إنجازاتها سواء في وصف وتصوير ال الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين أو بنية وتركيب الفيروسات وغيرها، غير أن “جيمس واتسن” نال تلك الجائزة بعد استخدامه للصورة 51 لإكتشافه ووصفه للبنية الجزيئية للحمض النووي مع زميليه “فرانسيس كريك” و ” موريس ويلكينز”، تتواتر الروايات بأن واتسن تجاهل إسهامات روزالند على الرغم من أنه لم يغفل ذكر الكيميائي “رونالد دلهو” وأهمية توجيهاته في اكتشافاتهم وإنجاز أعمالهم هو وزميله كريك في ذاك المجال.

كانت تلك نظرة تاريخية موجزة عن أهم الأسماء التي استطعت جمعها وأسهمت في اكتشاف العديد من أسرار المادة الوراثية، حاولت جاهدة التواصل مع العديد من المؤسسات البحثية للتحقق بشكل عملي مما جمعت من معلومات علمية وهذا هو الدافع الرئيسي لكتابة المقال، جدير بالذكر أن العديد من الاكتشافات الخاصة بفهم وتصور ماهية الذرة ومكوناتها وكيفية تتبع التفاعلات الكيميائية المختلفة للجزيئات متناهية الصغر وسلوكها وحركتها تعتبر حجر أساس في فهم طبيعة المادة الوراثية على مستوى الخلايا الحية.

………………………………………………

مصادر

  1. Encyclopedia Britannica | Britannica
  2. Wikipedia
  3. The official website of the Nobel Prize – NobelPrize.org
  4. www.encyclopedia.com

x-ray diffraction: تقنية تستخدم لحساب واستنتاج التركيب الكيميائي للمركبات العضوية والمعادن.

الصورة 51: صورة تم التقاطها باستخدام تقنية الأشعة السينية للحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين تحت إشراف روزالند فرانكلين.

Leave a comment